غزوة بدر الكبرى والفتح في شهر
رمضان المبارك ::
وفي السابع عشر من شهر رمضان عام الثاني
من الهجرة المباركة وقد أحرز المسلمون أولى انتصاراتهم على الطغيان والكفر ، في
معركة بدر الكبرى، التي هي أول لقاء مسلح بين الإيمان والكفر، وأول تجربة قاسية،
عاشت بين اهل الحق وأئمة الضلال ..
فلقد ثبتت الفئة المؤمنة، ثلاثة
عشر عاماً، بين أرجاء مكة، والعذاب يلفها، من احتشاد غلواء قريش، على خنق الإيمان
في القلوب... حتى هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون، من العذاب إلى
المدينة، ليتخذوا منها قاعدة حريزة.
وقد كانت هجرتهم هذه، مبعث شماتة
في صدور قريش، التي اعتبرتها ضعفاً وجبناً، مكللين بالهزيمة الشنعاء..
فيما، لم يكن هناك، ما يوحي بالضعف
أو الهزيمة، لأن المقاومة التي تؤدي إلى الانتحار في الظلام، دون تحقيق هدف ـ من
قريب أو بعيد ـ لا تعتبر نصراً!. والاحتفاء من جانب، للظهور من الجانب الآخر، أقوى
وأثبت، لا تسمى هزيمة!. ولكن قريش الغاشمة، كانت تلتمس الوقيعة في المسلمين، إن
عزَّ عليها الصدق فبالأكاذيب، فحسبها أنها تنال من محمد فحسب، رغم أنه لم يفكر في
الحرب ولا تظاهر بالاشتباك المسلح، حتى لا يعد إنسحابه ضعفاً متجسداً في الهزيمة،
خلسة أدراج الظلام، ولكن قريش الباغية، وجدتها فرصة سانحة للتهكم والسخرية، فأمعنت
فيهما تنكيلا بالرسول الجديد ..
ولكن الآن مضت سنتان، اثبتتا وجود
المسلمين، فقد خلص لهم «يثرب» أو كاد، وظفروا بسيوف استطاعوا أن يردوا بها
التطاول، وينددوا المعتدين بالحرب، إن دأبوا في عتوهم..
وها هم الآن يعترضون (ركب قريش)
انتقاماً لتنكيلها بالنفر الباقين في مكة من المؤمنين. .
وها هم الآن يقارعون التهديد
بالوعيد، ويتصدون للتهكم بالتهكم، ويخاطبونهم، يخاطبونهم الند للند، لا مخاطبة
العبيد للاشتباك بين المؤمنين والمشركين، من التنابذ والمناقضات الفردية، إلى
الحرب الباردة فألبت قريش، جيوشها الضاربة، وفرزت زهاء ألف سياف إلى «المدينة»
لتقضي على آخر مسلم فيها.. وشهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجوهها من لدية
من مقاتلين...
ورغم أن الفئة المؤمنة، كانت أقل
عدة وعديداً، ولكنها قبلت التحدي، بلا تخاذل، فلها (إحدى الحسنين) وإن فازت
بالجنة، فهي الأمل الذي هاجرت إليه، وإن كتب لها النصر، كان لها فخراً، لأن الفخر
للفئة المنتصرة، إذا تساوى الخصمان. فكيف إذا انتصرت الفئة القليلة، واندحرت الفئة
الكثيرة؟!.
وشاء الله: أن تكون هناك آية، في
انتصار فئة قليلة، على فئة كثيرة بأذن الله... كما قال القرآن الكريم: «واذكروا إذ
أنتم قليل مستضعفون، تخافون أن يتخطفكم الناس، فأواكم، وأيدكم بنصره، ورزقكم من
الطيبات، لعلكم تشكرون».
«إذ تستغيثون ربكم، فاستجاب لكم،
أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين».
«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي
فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ
الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ» وشاء الله: أن تدمغ آية
الحق ـ مهما تضاءلت ـ آية الباطل ـ مهما تضخمت، ولو كره المجرمون، فما النصر إلا
من عند الله العزيز الحكيم...
وشاء الله: إذلال الأسياد
الجبابرة، بأيدي تلك القلة، التي عاشت طويلا، تهضم العذاب والإزدراء...
فأبو جهل ـ ذلك الطاغية، الذي صفع
عبد الله بن مسعود، يوم سمعة يتلو كتاب الله، وهو يقول: حتى انت يا رويع الغنم ـ
بعد أن صرع في المعركة ليلفظ أنفاسه الأخيرة، حملق بعينيه في شاب، وضع نعله على
رقبته، ليحز رأسه، فنادى، من أنت؟ فأجاب عبد الله: أنا رويع الغنم!
فرد الطاغية الحقير: لقد ارتقيت
مرتقاً صعباً، يا رويع الغنم، أسرع واجهز علي!!.
واُمية ـ الذي كان يكوي «بلال
الحبشي» ويطرحه عارياً تحت الحديد على الرمضاء ـ هو الذي انتهى بسيف بلال، بعد أن
أثخنه «معاذ» و«معوذ» من أصحاب رسول الله... فما كان الناس، يعتبرون المسلمين في
مكة، إلا فئة متنصلة مستضعفة، لا تطبق حولاً، ثم أثبت واقعة بدر:كيانهم المجيد،
ومثلت الإنتصار الساحق لهم، والإعلان الأول لثورة الإسلام، وشخصيته الاجتماعية،
باستئصال المؤامرة الكبرى، ضد الإسلام والرسول والمسلمين...
وفي اليوم الحادي والعشرون، من شهر
رمضان، عام 8هـ كانت «غزوة الفتح»... وكانت الإنجاز الراشد لذلك المكسب الرابح...
ولئن سجلت «غزوة بدر الكبرى» النصر الأول للمسلمين، فإن «غزوة الفتح» قررت النصر
النهائي للمسلمين...
فلأعوام الثمانية، التي تلت
الهجرة، لم تكن كفيلة، بإقناع الرأي العام بقوة العقيدة الإسلامية على الدهر،
وأنها كلمة باقية في الأرض ـ كما كان يؤكد الرسول ـ رغم أنها ظلت في صراع دائم مع
قوى الشر والطغيان، دون أن تقهر أو تلين، وخرجت من التجارب القاسية، تقود الجماهير
من نصر إلى نصر، غير أن الرأي العام العشائري، والطغاة من أصحاب السيطرة والنفوذ،
كانوا يفسرون تلك الانتصارات المتلاحقة، بأمور صدفية، كما كانوا ينتظرون في كل يوم
اغتيال الرسول الأقدس.. ولذلك، ظلوا يتهاونون في الانضواء تحت راية الإسلام، رغم
اقتناع كثير منهم بأفكار الرسول، وإعجاز القرآن...
وكيف يحق لرئيس مطاع: أن يزج بنفسه
في مخاطرة، غير مرسومة المصير؟ أو هل يمكن الثقة بالأسلام، ولما يحكم إلا يثرب
وقطاعاً مجاورة؟!.
فلما انتهى فتح مكة، دون أية
مقاومة، وسيطر المسلمون على أخطر منطقة في الجزيرة العربية ـ يومذاك ـ من غير أن
يريقوا محجمة دم، وذلت قريش الظافرة على التاريخ، وحطموا الأصنام التي علت ظهر
الكعبة، ليعبدها الناس كأنها الآلهة، وجعلوها رذاذاً تحت الاقدام.. استقام
للمسلمين كيانهم الشامخ الوطيد، وعرف الأعراب الذين علقوا أبصارهم، وقلوبهم،
وآمالهم بمكة ، أن المسلمين لن ينتكسوا بعد ذلك بهذه المناسبة، سمّي ذلك العام
«عام الوفود» لتزاحم وفود القبائل على النبي صلى الله وآله وسلم من أجل الدخول في
الإسلام.
وكان ذلك أوج نبوغ شخصية الإسلام،
الذي أكرمه الله تعالى بسورة كاملة تقديراً لروعة المبلغ الرفيع، بسم الله الرحمن
الرحيم «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ
فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ
إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً» .
أبداً.. وعلموا: أن الإسلام مضمون
النجاح، مرسوم المصير...فطفقوا يدخلون في دين الله أفواجاً...